تحمل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المرتقبة إلى الشرق الأوسط والسعودية معاني أبعد بكثير من “إعادة ترتيب العلاقات” أو الحاجة الأميركية إلى الطاقة.
فقد أجمع دبلوماسيون يعملون في واشنطن، وشخصيات قريبة من إدارة بايدن، في حديث للعربية/الحدث على أن زيارته السعودية والاجتماع مع الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثم عقد قمة مع قادة مجلس التعاون الخليجي وقادة مصر والأردن والعراق، وقبلها زيارة إسرائيل والضفة الغربية، تحمل مؤشّرات على وجود “خطة واضحة لدى بايدن” في الشرق الأوسط، تقوم على “التحالف مع الأصدقاء واحتواء إيران”.
بايدن البراغماتي
وفيما لا يستطيع أحد وصف الرئيس الأميركي بأنه شخصية عقائدية، إلا أن أشخاصاً قريبين منه أكدوا أنه يعود دوماً إلى مرجعيات أخلاقية، أو تجاربه الشخصية في كل مرة يريد اتخاذ قرار ما أو الدفاع عن توجّه في سياسته.
ومعروف عنه أنه يدافع عن حقوق العمال، وقد تطرق مراراً إلى قصة أبيه الذي عاد في إحدى الليالي إلى المنزل وقد فقد عمله، قلقاً من عدم القدرة على إطعام عائلته أو إيجاد الدواء لها.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (أ ف ب)
كما يعرف عنه بأنه يبني الكثير من توجهاته الاقتصادية على “العدالة الاجتماعية”، لكنه شدد أيضا على أنه “رأسمالي” ويؤمن باقتصاد السوق.
وقد ساعدته تلك البراغماتية بين الموقف الأخلاقي والحاجة إلى اقتصاد السوق، خلال الأشهر الماضية على إيجاد حلول عملية لمشكلتي التضخم والطاقة في الولايات المتحدة.
كما سمحت له بالنظر إلى السعودية بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام كمنطقة حيوية للاقتصاد الأميركي، والإقرار بأن على الحكومة أن توليها الاهتمام الضروري.
المحيطون بالرئيس
وفي هذا السياق، وصف أحد المتحدثين أعضاء الإدارة المحيطين بالرئيس الأميركي، قائلا “لديك مدير لوكالة الاستخبارات المركزية السي. أي. أي (وليم بيرنز) يدير عمله بيد لا ترتجف، ووزير خارجية (أنتوني بلينكن) يمارس الدبلوماسية بمهنية عالية في القرن الواحد والعشرين، ووزير دفاع (لويد أوستن الذي كان قائد المنطقة المركزية) يفهم المنطقة بشكل جيد، في حين يتسرع البيت الأبيض أحياناً باتخاذ المواقف”.
فهذه المجموعة من المقرّبين لبايدن ليست مجموعة عقائدية أيضاً، وقد عبّرت عن موقف إدارة بايدن باكراً بالقول إن الشرق الأوسط حيوي بالنسبة للولايات المتحدة والسعودية “عمود أساسي في بنية الأمن الإقليمي، وشريكة في مكافحة الإرهاب ومواجهة التصرفات الإيرانية المزعزعة للاستقرار”.
كما ألمحت إلى أن واشنطن تريد مواجهة التمدد الصيني والروسي في هذه المنطقة.
روزفلت والملك عبدالعزيز
فمنذ بدأت ولاية بايدن الرئاسية، انخرطت إدارته في عملية مراجعة للسياسة الخارجية، وفي جوهرها مراجعة اقتصادية.
ولعل من أهم ما توصلت إليه، هو أن اقتصاد الشرق الأوسط كمستهلك وكمساهم في الاقتصاد الأميركي والعالمي سيبقى “ضرورياً” لثلاثة عقود مقبلة، فالعالم سيحتاج إلى النفط بمستوياته الحالية أي 100 مليون برميل يومياً حتى العام 2050، والسعودية تنتج بمعدّل 10 ملايين برميل يومياً، كما أن مجموع الاستيراد الأميركي من منطقة الشرق الأوسط يصل إلى حدود 65 مليار دولار سنويا، وقرابة 30 مليارا منه مواد طاقة ونفط، فيما يصل التصدير الأميركي إلى الشرق الأوسط والسعودية إلى 77 مليار دولار سنوياً، وفق إحصاءات العام 2019، وهي تتجه إلى التصاعد وليس الانخفاض.
وقد جاء الصراع الروسي الأوكراني ليسرّع تلك التوجهات الأميركية، فالشرق الأوسط بات ضرورة، والسعودية في صلب هذه الضرورة.
حتى إن أحد المتحدثين الأميركيين قال أكثر من مرة خلال حديثه للعربية، إنه “يجب النظر إلى المرحلة المقبلة تماماً كما نظرنا إلى لقاء الرئيس روزفلت بالملك عبدالعزيز منذ خمسة وسبعين عاماً، كما يجب النظر إلى المستقبل لعقود طويلة من القرن الواحد والعشرين”.
احتواء إيران
وكانت إدارة بايدن بدأت نوعاً من التحوّل منذ العام الماضي، ووصلت إلى انعطافة بداية هذا العام، لاسيما بعد أن عم الغضب في أروقة واشنطن من رفض إيران الطلب الأميركي بعدم مهاجمة الجنود الأميركيين المنتشرين في المنطقة، بحسب ما أفادت سابقاً معلومات للعربية.
كما هناك مؤشّر إضافي على التحوّل الأميركي. فأحد المسؤولين الكبار في الإدارة تحدّث إلى الصحافيين عبر الهاتف قبل ساعات من الإعلان رسمياً عن أن بايدن سيتوجّه إلى الشرق الأوسط، وذكر مرتين تعبير “احتواء إيران”، مرة في بيانه الافتتاحي ومرة ثانية خلال الإجابة عن سؤال.
وحين سألت العربية لاحقاً مجلس الأمن القومي عما تعنيه الإدارة بـ”احتواء إيران”، ردّ متحدث باسمه قائلاً “إن الإدارة لديها مشاكل أساسية مع تصرفات طهران في مجالات عديدة، بما في ذلك دعمها للإرهاب، وبرنامج الصواريخ الباليستية ونشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وممارستها الاعتقال المقيت للمواطنين الأميركيين والأجانب واستعمالهم لأغراض سياسية”.
كما رأى أن “إيران مع سلاح نووي ستتصرف بشكل استفزازي أكثر في هذه المجالات”.
مع ذلك، أكد المسؤولون الأميركيون تمسكهم باستعمال الأساليب الدبلوماسية.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي لـ”العربية” و”الحدث”: “إن الرئيس الأميركي يعتقد بشكل راسخ أن الأسلوب الأفضل لمقاربة الموضوع الإيراني هو الدبلوماسية، ونحن نعالج الموضوع بمقاربة شاملة تستعمل وسائل متنوعة للتعاطي مع القضايا الإيرانية المقلقة”.
كما شدد على أن “الإدارة تتابع التشاور مع مجموعة 5+1 وكذلك إسرائيل والشركاء الإقليميين حول أفضل الوسائل للعمل من الآن فصاعداً”.
خطة الاحتواء
لكن المتحدث لم يجب عن سؤالنا حول ما تتضمنه “خطة الاحتواء” هذه.
إلا أن متحدثين قريبين من الإدارة الأميركية، وآخرين من السلك الدبلوماسي، أوضحوا أن بايدن ومساعديه لم يستكملوا بعد كافة معالم “سياسة الاحتواء”، لكنهم شددوا على أهمية النظر إلى أن واشنطن تراقب بقلق التمدّد الإيراني باتجاه الهند وإفريقيا وأميركا الجنوبية، وسياسة احتواء إيران ستشمل دون شك مواجهة هذا التمدد خارج الشرق الأوسط، مثلما يجب النظر إلى احتواء النشاطات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إلى ذلك، ربما يكون من أهم معالم سياسة الاحتواء أيضاً غياب النشاط العسكري الأميركي المباشر بل الاحتفاظ بالقوات الحالية عند مستويات 40 ألف جندي، والموزّعين بين الخليج العربي والعراق وسوريا، ومساعدة دول المنطقة وإسرائيل على رصد وضرب التحركات العسكرية لإيران، و”احتواء توسعها” في الشرق الأوسط وخارجه، على ألا تنفجر الأوضاع!.
التعليقات