وحدهم السذج اعتقدوا أن الهجوم الروسي على أوكرانيا سينتهي بشكل جيد. لكنه لن ينتهي نهاية حسنة. وكلما طالت المدة، ساءت الأمور للجميع. فهل اعتقد فلاديمير بوتين فعلاً أن الغرب سيقبل ضم المزيد من الأراضي الأوكرانية؟ أو يتخلى الأوكرانيون عن قيادتهم ويستبدلونها بحكومة موالية لروسيا؟
وهل اعتقد الغرب، بعد رفض التحذيرات المبكرة للرئيس الأميركي جوزيف بايدن بشأن النوايا الروسية، أن الغضب الذي جاء متأخراً وإظهار الحزم قد يحشد المجتمع الدولي لإجبار بوتين على التوقف؟ في هذه المرحلة، يضخ الروس الكثير من النفوذ والموارد للانسحاب. والكبرياء الوطني الأوكراني خاضع لاختبار، بالإضافة إلى الخوف المسوغ من النوايا الروسية. فلن يستسلم الأوكرانيون ويقبلوا الهزيمة وكفى. والآن، والحرب في شهرها الخامس، لا تلوح في الأفق أي نهاية والدمار الواسع النطاق لأوكرانيا مستمر.
والواقع أن لا أحد سيفوز في هذه الحرب أو يستطيع ذلك. ولن تتضح الكلفة الإضافية إلا في السنوات القادمة، بما في ذلك مصير ملايين اللاجئين الأوكرانيين الذين أُجبروا على الفرار من بلادهم أو النازحين داخلياً. والسذج وحدهم هم الذين يفترضون أنه حين تنتهي أعمال القتال، سيعود اللاجئون ببساطة. وكلما طال أمد الحرب، وكلما تفاقمت الأضرار، زاد عدد اللاجئين الذين لن يختاروا العودة أو يستطيعوها. وهل البلدان التي رحبت في بداية الأمر باللاجئين ستظل كذلك مرحبة بهم؟ وبالإضافة إلى ذلك، بدأت التحولات الجيوسياسية غير المتوقعة تتشكل ببطء استجابة لهذه الحرب.
وبعد العمليات العسكرية مباشرة، تحدث الرئيس بايدن عن عالم متحد ضد روسيا. وتم إرسال الأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا، وفرضت دول الناتو عقوبات تتوسع باستمرار ضد روسيا. وأُريد بهذه الإجراءات الاقتصادية المعرقلة الضغط على موسكو. وكان بعض هذه الإجراءات ضرورياً، والبعض الآخر كان مسوغاً. لكن التدابير الاقتصادية واسعة النطاق وجهود العزل سيكون لها عواقب مقصودة وغير مقصودة. وكان لخسارة النفط والغاز والقمح الأوكراني الذي تحتجزه روسيا تأثير مدمر على الاقتصادات والشعوب في الشرق والغرب.
ونظراً لعدم قدرتها على التكيف على الفور، تمكنت روسيا من تعويض بعض خسائرها ببيع مواردها الحيوية في الأسواق الآسيوية. وبسبب القيود المفروضة على قدرة روسيا على التجارة بالدولار، طالب الروس بالدفع بالروبل، مما منح عملتهم قوة مطلوبة. وفي الوقت نفسه، يؤدي ارتفاع أسعار الوقود والقمح إلى زعزعة استقرار البلدان، الغنية منها والفقيرة على السواء. كما أن المسارعة في مسعى العثور على مصادر جديدة للنفط والغاز يؤثر بشدة على تحقيق الأهداف المناخية الحيوية.
وبسبب عدم الثقة في اتساق القيادة الأميركية بعد عقدين من التحولات المذهلة في السياسة الأميركية، ترددت دول كثيرة أو رفضت تماماً الانضمام إلى جبهة موحدة لمعارضة روسيا. والضغط المتواصل من الولايات المتحدة ودبلوماسيين غربيين آخرين للانضمام إلى حملة معاقبة روسيا لقي رفضاً مهذباً من دول في أميركا اللاتينية ودول عربية وآسيوية. فهذه الدول لفتت انتباه مخاطبيهم الغربيين بأنه يتعين عليهم وضع مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية في المقام الأول، كما فعل ذلك بالضبط عدد من الدول الغربية. ووصف أحد المحللين التحالف الناشئ بين الولايات المتحدة والناتو ساخراً بأنه تحالف «الغرب ضد البقية». وكلما طال أمد هذا الصراع، زاد رسوخ بعض هذه الحقائق الاقتصادية والسياسية الناشئة، وزاد الخطر المتمثل في أن يصبح العالم أكثر انقساماً في صورة حرب باردة جديدة.
والعلاقات ستتوتر والاقتصادات ستعاني والعداوات ستتفاقم، وستنشأ صراعات جديدة. والآن نواجه الخيارات نفسها التي كنا نواجهها قبل خمسة أشهر، إما صب المزيد من الوقود على النار أو تعبئة الضغط الدولي للتوصل إلى حل تفاوضي. والعثور على طريق للمضي قدماً لن يكون سهلاً أو حتى مستساغاً. سيتعين تقديم تضحيات ولن يحصل أي من الجانبين على ما يريد. لكن إما هذا، أو الوقوع في شرك انزلاق مستمر نحو نظام عالمي جديد منقسم وكابوسي، وهو نظام يجب أن نسعى إلى تجنبه بأي ثمن.
* رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن
التعليقات